فصل: تفسير الآيات (173- 175):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (173- 175):

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}
قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} يقول: إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون: إنما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم، أي كنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عذرا لأنفسكم وتقولوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد.
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى التوحيد.
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الآية. اختلفوا فيه، قال ابن عباس كان من بني إسرائيل. وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا.
وكانت قصته- على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم- أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم- وكان عنده اسم الله الأعظم- فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا، فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه فقال: حتى أؤامر ربي، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها، ثم راجعوه فقال: حتى أؤامر، فآمر، فلم يوح إليه شيء، فقال: قد آمرت فلم يجز إلي شيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان، فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى إذا أذلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فضربها حتى أذلقها، أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب بي؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا؟! فقال: هذا ما لا أملكه، هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمِّلوا النساء وزيِّنوهن وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين، اسمها كستى بنت صور، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني اسرائيل في الوقت، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليهما القبة، وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورُفع الطاعون، فحُسِب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} الآية.
وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى، فقال: إنه من أهل ديني لا أدعو عليه، فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها، فقالت: لِمَ تضربني؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك، فدعا على موسى بالاسم الأعظم: أن لا يدخل المدينة، فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التية بدعائه، فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان، فنزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء، فذلك قوله: {فانسلخ منها}.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكانت قصته: أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة، وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر، فسأل عنهم فقيل: قتلهم محمد، فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه، فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت، فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: وعى؟ قال أزكى؟ قال: أبى، قالت: فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي، فصرف عني فغشي عليه، فلما أفاق قال:
كل عيش وإن تطاول دهرا ** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ** في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم ** شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشديني من شعر أخيك، فأنشدته بعض قصائده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه»، فأنزل الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الآية.
وفي رواية عن ابن عباس: أنها نزلت في البسوس، رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة، فقال لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة، فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة نباحة، والناس يعيِّروننا بها، ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات كلها. والقولان الأولان أظهر.
وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عُرض عليه الهدى فأبى أن يقبله، فذلك قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا}. قال ابن عباس والسدي: اسم الله الأعظم. قال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه. وقال ابن عباس في رواية أخرى: أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ، أي: خرج منها كما تنسلخ، أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: لحقه وأدركه، {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}.

.تفسير الآية رقم (176):

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لرفعناه بعلمه بها. وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ} أي: سكن إلى الدنيا ومال إليها. قال الزجاج: خلد وأخلد واحد. وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام، يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض، وسائر متاعها مستخرج من الأرض. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} انقاد لما دعاه إليه الهوى، قال ابن زيد: كان هواه مع القوم. قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وهذه أشد آية على العلماء، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آية من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها، ومَن الذي يَسْلَمُ من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه».
قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} يقال: لهث الكلب يلهث لهثا: إذا أدلع لسانه. قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
والمعنى: إن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء، كحالتي الكلب: إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا، وإن ترك وربض كان لاهثا. قال القتيبي: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة وفي حال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث، نظيره قوله تعالى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [الأعراف- 193]، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقيل: هذا مثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم نبي لا يشكّون في صدقه كذّبوه فلم يهتدوا تُركوا أو دُعوا.

.تفسير الآيات (177- 178):

{سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}
{سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وتقديره: ساء مثلا مثل القوم، فحذف مثل وأقيم القوم مقامه فرُفع، {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}.

.تفسير الآيات (179- 180):

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها.
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي، حدثنا حفص بن غياث، عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار، فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عاصفير الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم». وقيل: اللام في قوله: {لجهنم} لام العاقبة، أي: ذرأناهم، وعاقبة أمرهم جهنم، كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص 8]، ثم وصفهم فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} أي لا يعلمون بها الخير والهدى. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} طريق الحق وسبيل الرشاد، {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها، ثم ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب، فقال: {أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي: كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع بالشهوات، بل هم أضل لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع، فلا تقدم على المضار، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، مع العلم بالهلاك، {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} قال مقاتل: وذلك أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال بعض مشركي مكة: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يدّعون أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. والحسنى تأنيث الأحسن كالكبرى والصغرى، فادعوه بها.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور المرادي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر».
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قرأ حمزة: {يلحدون} بفتح الياء والحاء حيث كان- وافقه الكسائي في النحل، والباقون بضم الياء وكسر الحاء، ومعنى الإلحاد هو: الميل عن المقصد يقال: ألحد يلحد إلحادا، ولحد يلحد لحودا: إذا مال. قال يعقوب بن السكيت: الإلحاد هو العدول عن الحق، وإدخال ما ليس منه فيه، يقال: ألحد في الدين، ولحد، وبه قرأ حمزة.
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} هم المشركون عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز، ومناة من المنان، هذا قول ابن عباس ومجاهد.
وقيل: هو تسميتهم الأصنام آلهة. وروي عن ابن عباس: يلحدون في أسمائه أي يكذبون. وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله: تسميته بما لم يُسَمَّ به، ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجملته: أن أسماء الله تعالى على التوقيف فإنه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا، وإن كان في معنى الجواد، ويسمى رحيما ولا يسمى رفيقا، ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا وقال تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء 142] وقال عز من قائل: {ومكروا ومكر الله} [آل عمران- 54]، ولا يقال في الدعاء: يا مخادع، يا مكار، بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم، فيقال: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا عزيز، يا كريم ونحو ذلك. {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرة.